[size=16]((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ))،
المراد به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أصله "المتزمل"، من باب
التفعل، ثم أدغمت التاء في الزاء، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء
بالساكن، ومعنى "تزمل": تلقف في ثوب ونحوه، فقد كان الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) يتزمل بثوبه وينام، فخوطب بهذا الخطاب لمناسبة الحالة للأمر
المتوجه إليه في قيام الليل.
((قُمِ)) في ((اللَّيْلَ)) لأداء صلاة الليل، ((إِلَّا قَلِيلًا)) منه، فلك أن تنام فيه.
ثم بين سبحانه مقدار القليل الذي سمح للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنوم فيه بقوله: ((نِصْفَهُ))، أي نم في مقدار نصف الليل، ((أَوِ انقُصْ مِنْهُ))، أي من النصف ((قَلِيلًا)) بأن تضيف على سهرك، فيكون نومك أقل من النصف.
((أَوْ زِدْ عَلَيْهِ))،
أي على النصف بأن تضيف على نومك، فيكون نومك أكثر من النصف، والحاصل أن
المأمور به السهر بمقدار نصف الليل أو أكثر من النصف، أو أقل من النصف،
والمحور النصف، ((وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ))، أي اقرأه قراءة متوسطة لا بسرعة ولا ببطء زائد، ((تَرْتِيلًا))
تأكيد لـ"رتل"، وقد سئل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الآية
فقال: "بيّنه بياناً، ولا تَهُذّه هَذَّ الشعر،" أي لا تسرعونا
<تسرعون؟؟> في قراءته كما تسرعون في قراءة الشعر، "ولا تنثره نثر
الرمل،" أي لا تفرقوا بعضه عن بعض كنثر الرمل، "ولكن أفزعوا قلوبكم
القاسية، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة."
((إِنَّا سَنُلْقِي))، أي سنوحي ((عَلَيْكَ)) يا رسول الله ((قَوْلًا ثَقِيلًا))،
أي كلاماً يثقل عليك القيام به - والمراد به القرآن، فإنه يثقل على
الإنسان العمل به - أو الرسالة - فإنه يثقل أداؤها - أو القيام بالليل.
كما فسر قوله تعالى: ((إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ))، أي ساعات الليل، لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، والمقصود العمل فيها أو المراد العبادة تنشأ في الليل، ((هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا))، أي أكثر ثقلاً وكلفة لصعوبة القيام ليلاً شتاءاً لبرد الهواء وصيفاً لقصر الليل، ولعل المراد كونها أشد من ناشئة النهار، ((وَأَقْوَمُ قِيلًا))، أي قول الليل وعبادته أكثر قواماً واستمساكاً لأنه يؤدي بحضور القلب وتوجه الذهن، ولأن أفضل الأعمال أحمزها.
((إِنَّ لَكَ)) يا رسول الله ((فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا))، "السبح": التقلب، ومنه المتقلب في الماء سابحاً، أي تقلباً في أشغالك ((طَوِيلًا))،
من إراءة الطريق والإرشاد وسائر الأعمال، فلا يتأتى منك أن تعبد كما
ينبغي، ولذا جعل الليل للعبادة، وقد روي أن الإمام أمير المؤمنين (عليه
السلام) كان بعمل طول النهار، ويعبد طول الليل، فقيل له: "يا أمير المؤمنين
ألا تهدأ؟" قال: "إذا هدأت النهار كان فيه ضياع الأمة، وإذا هدأت الليل كان فيه ضياع نفسي."
((وَاذْكُرِ)) يا رسول الله ((اسْمَ رَبِّكَ)) بأن تعبده وتخضع له، ((وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا))،
"التبتل" هو الانقطاع إلى الله عز وجل وإخلاص العبادة له، من "بتل" بمعنى
قطع، وإنما قال "إليه" لأن الانقطاع عن الخلق إليه، لا كون الانقطاع عنه.
ثم بين "ربك" بقوله: ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ))، هو كناية عن الكون، لأن من بيده المشرق والمغرب كان بيده العالم كله، ((لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، فلا شريك له كما يزعم المشركون، ولذا لا يحق العبادة لغيره، ((فَاتَّخِذْهُ)) يا رسول الله ((وَكِيلًا))، أي حفيظاً للقيام بأمرك، وفوض إليه أمرك.
((وَاصْبِرْ)) يا رسول الله في توحيدك ونبذ الأصنام ((عَلَى مَا يَقُولُونَ))، أي الكفار حولك من أنك ساحر أو كاهن أو مجنون أو ما أشبه ذلك، ((وَاهْجُرْهُمْ))، أي ابتعد عنهم، ((هَجْرًا جَمِيلًا)) بأن تدعوهم إلى الهدى في عين حالة الهجر، بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
((وَذَرْنِي))، أي دعني لهم، فأنا أكفيك شرهم، ((وَالْمُكَذِّبِينَ)) برسالتك وما جئت به، ((أُولِي النَّعْمَةِ))، أي أصحاب الثروة وغيرها من سائر النعم، فكل جزائهم إليّ، ((وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا))،
أي أنهم بعد قليل سيقعون في العذاب عذاب الدنيا - في قصة بدر - وعذاب
الآخرة، وقوله "مهلهم" كناية عن الصبر معهم، وهذا تهديد للكفار.
((إِنَّ لَدَيْنَا)) في الآخرة، والمراد بـ"لدينا": لدى حسابنا وجزائنا، ((أَنكَالًا)) جمع "نكل" وهي القيود والأغلال، ((وَجَحِيمًا))، أي ناراً كثيرة، فإن جحيم بمعنى ذلك، وهي من أسماء جهنم.
((وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ))،
"الغصة" تردد اللقمة في الحلق بحيث لا يتمكن الإنسان من إساغتها، أي أن
أطعمة النار المهيأة لهم ذات غصة فلا يتمكن المجرم من إساغتها إلا بعد علاج
وصعوبة، ((وَعَذَابًا أَلِيمًا)) مؤلماً موجعاً.
إن هذه الألوان من العذاب إنما هي في ((يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ))، أي تتحرك وتضطرب، فإن الزلزال من علائم يوم القيامة، كما قال سبحانه (إن زلزلة الساعة شيء عظيم)، ((وَالْجِبَالُ)) لتكثير الهول، ((وَكَانَتِ الْجِبَالُ)) في ذلك اليوم ((كَثِيبًا مَّهِيلًا))،
"الكثيب": الرمل المتجمع الكثير، و"المهيل" هو السائل المتناثر، من هال:
إذا حرك أسفله فتحرك وسال أعلاه، أي يكون الجبال هكذا سائلة في الأرض.
((إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ)) أيها الكفار ((رَسُولًا))، يعني محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ((شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)) بما تعملون من الاعتقاد والعمل الصحيح أو الفاسد ((كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا)) وهو موسى (عليه السلام).
((فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)) بأن لم يطع أوامره بل خالفه وعانده، ((فَأَخَذْنَاهُ))، أي أخذنا فرعون ((أَخْذًا وَبِيلًا))، أي شديداً ثقيلاً بإغراقه في البحر، وهكذا أنتم إن لم تؤمنوا أخذناكم بصنوف العذاب
((فَكَيْفَ تَتَّقُونَ)) أيها الكفار، أي تجتنبون ((إِن كَفَرْتُمْ)) في الدنيا ((يَوْمًا))، أي من عذاب يوم - وهو مفعول "تتقون" - ((يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ)) جمع ولد، ((شِيبًا))
جمع أشيب، وهو البالغ سن الشيب والشيخوخة، فإن يوم القيامة لشدة أهوالها
يجعل الأولاد في صورة الشيوخ ببياض الشعر ونحوه، أي هل تتمكنون من الاتقاء
عن عذاب يوم القيامة؟ وإذ لا تتمكنون فكيف تكفرون حتى تبتلوا به؟
((السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ))،
أي بذلك اليوم، أي أن السماء تنفطر بسبب أهوال ذلك اليوم، والسماء يجوز
فيها التذكير والتأنيث، ولذا قال في مقام آخر (إذا السماء انفطرت)،
والانفطار هو الانشقاق بأن يرى السماء كالشيء المنشق لاختلال نظام المدارات
ولون الهواء وغير ذلك، ((كَانَ وَعْدُهُ)) سبحانه بمجيء هذه الأمور ((مَفْعُولًا))، أي كأنها لا خلف فيه ولا تبديل.
((إِنَّ هَذِهِ))، أي صفة الأمور التي ذكرناها لأهوال ذلك اليوم ((تَذْكِرَةٌ)) وموعظة لكم أيها البشر، ((فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا))، أي سلك سبيلاً يؤدي إلى رضوانه، وهو سبيل الدين والإسلام.
ثم عطف السياق نحو قيام الليل الذي ابتدأ به الكلام فقال: ((إِنَّ رَبَّكَ)) يا رسول الله ((يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى))، أي في الوقت الذي هو أقرب ((مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ))،
ففي بعض الليالي كان يقوم الرسول قبل ثلثي الليل بأن كان الباقي إلى الفجر
ثلثان، وفي بعض الليالي قبل النصف، وفي بعض الليالي قبل الثلث، ((وَ)) تقوم ((طَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ)) من المؤمنين كالإمام المرتضى (عليه السلام) والصديقة الطاهرة (عليه السلام) وسائر الخواص، ((وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ))، أي أن مقدار الليل والنهار بيده، فهو المقدر لها، والمقدر يعلم الأمور المرتبطة بما قدره، ولذا ((عَلِمَ)) الله سبحانه ((أَن لَّن تُحْصُوهُ))، أي لا تتمكنون من إحصاء الليل كله بأن تقوموا فيه من أوله إلى آخره في العبادة والطاعة، ((فَتَابَ عَلَيْكُمْ)) بأن لم يفرض القيام في الليل عليكم عطفاً وتفضلاً، مع أن المقتضى للإيجاب كان موجوداً، ((فَاقْرَؤُوا)) في الليل ((مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ))،
أي من الشيء الذي يقرأ، والمراد به الصلاة والدعاء ونحوهما، والمعنى أنه
حيث لا تقدرون على القراءة كل الليل فاقرأوا ما سهل عليكم وتيسر عندكم، ثم
بين سبحانه حكمة التسهيل بقوله: ((عَلِمَ)) الله تعالى ((أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى)) جمع "مريض"، والمريض لا يقدر على قيام الليل ((وَآخَرُونَ)) منكم ((يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ))، أي يسافرون ((يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ))، أي يطلبون الفضل والتجارة، ((وَآخَرُونَ)) منكم ((يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))
لإعلاء كلمته وسبيل دينه، والمسافر والمحارب حيث تعبا في النهار لا يسهل
عليهما قيام الليل، ولذا خفف سبحانه عنكم ولم يلزمكم بالقيام، أو بمقدار
خاص كالنصف والثلث والثلثين، ((فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ)) وسهل ((مِنْهُ))،
أي من القرآن، والمراد به الصلاة والدعاء والقرآن الحكيم، فإن القرآن مطلق
ما يقرأ، فإن هذه العلل الخاصة أوجبت تخفيفاً عاماً - على نحو الحكمة، ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)) في أوقاتها كما فرض الله سبحانه، ((وَآتُوا الزَّكَاةَ))، أي أعطوها واجبها ومندوبها، ((وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا))
بإنفاق المال في مراضيه، بلا مَن ورياء أو سمعة أو عجب، وكونه إقراضاً
باعتبار أنه سبحانه يرده على الإنسان في الدنيا والآخرة أضعافاً مضاعفة، ((وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم)) إلى الآخرة ((مِّنْ خَيْرٍ))، أي طاعة وعبادة، فإن ما يعمله الإنسان من الخير يقدم له إلى الجنة حتى إذا ذهب إليها وجد فيها ثواب ما عمل، ((تَجِدُوهُ))، أي ذلك الخير ((عِندَ اللَّهِ)) في دار كرامته، ((هُوَ))، أي تجدوه هو - بعينه بلا نقصان أو اختلاف - ((خَيْرًا))، أي في حال كونه خيراً، أو بحذف "تجدوا"، أي تجدوا خيراً، أو أنه بيان لهاء "تجدوه"، ((وَ)) في حال كونه ((أَعْظَمَ أَجْرًا))،
أي ثواباً مما كان هو، فثوابه في الآخرة أعظم من نفسه في الدنيا، إذا كان
في الدنيا يساوي عشرة فتجدون في الآخرة ثوابه مائة - مثلاً - أو أعظم أجراً
من الذي يبقى في الدنيا، ((وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ)): اطلبوا غفرانه، ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ)) للذنوب، ((رَّحِيمٌ)): يتفضل بالرحمة فوق غفران الذنوب.
[/size]