الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ـ الجزء الرابع
وبعض العلماء الكبار اعتبر هذه الزيارة افضل الزيارات الجامعة، وقد نقلها كثير من الشخصيات العلمية المرموقة، كالمرحوم الشيخ الصدوق المتوفى سنة ( 381 هجرية ) في كتاب ( من لا يحضره الفقيه) ( ج2، ص 609، طبع مكتبة الصدوق، طهران ( يقول الشيخ الصدوق في اوائل كتاب من لا يحضره الفقيه: انني اذكر في هذا الكتاب ما افتي به واراه حجة شرعية بيني وبين ربي ج1 ص 3) وكتاب ( عيون اخبار الرضا) ( ج2 ص 277 طبع منشورات الاعلمي، طهران) ، والشيخ الطوسي المتوفى سنة ( 460) هجرية في كتاب ( تهذيب الاحكام) ( ج6 ص95 طبعة طهران).
ونفس جذابية الكلام وثراء المضمون وما يحفل به من علم ومعرفة هو شاهد صادق على اصالة هذه الزيارة وداّل على تمتّع قائله بالعلم الالهي الرفيع، ونحن ننقل هنا هذا الكلام الشريف آملين ان لا يغفل التابعون للأئمة (عليهم السلام) عن هذه الجوهرة الثمينة من كنز المعارف الشيعية، وان يواظبوا على زيارة الائمة الطاهرين بهذه الكلمات المضيئة، سواء أكانت زيارتهم من بعد ام في حرم كل واحد من الائمة المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين.
تلامذة الإمام (عليه السلام):
إنّ جَوَّ الاضطهاد والظلم الذي عاشه الإمام (عليه السلام) قد جعل امكانية الانتفاع من الإمام محدودة جدّاً ، ولكنّه مع ذلك استطاع بعض المشتاقين لمعارف القرآن وأهل البيت (عليه السلام) ان يكسبوا من فيض الإمام الهادي (عليه السلام) بمقدار سعة وجودهم، وان يرتعفوا إلى الدرجات الرّاقية من الايمان والمعرفة. وقد سمّى الشيخ الطوسي ( 185) شخصاً من الذين رووا عن الإمام الهادي (عليه السلام)، ونلاحظ بينهم شخصيات لامعة، ونحن هنا نتعرض لذكر بعضهم باختصار:
1 ـ عبدالعظيم الحسني: كان من كبار الرواة والعلماء، وله مقام رفيع في الزهد والتقوى، وقد ادرك بعض الاصحاب الكبار للإمام السادس والإمام السابع والإمام الثامن (عليهم السلام)، وهو يعد من أنجب تلامذة الإمامين الجواد والهادي ((عليهما السلام)) ومن اشهر الرواة عنهما.
يقول الصاحب بن عبّاد: كان عبدالعظيم الحسني عارفاً بشؤون الدين ومطلعاً تماماً على المسائل الدّينية واحكام القرآن ( عبدالعظيم الحسني ص 31).
ويقول أبو حمّاد الرازي: ذهبت إلى مجلس الإمام الهادي (عليه السلام) وسألته عن بعض المسائل، ولمّا اردت الانصراف قال لي الإمام: كلما حدثت لك مشكلة فاسأل عنها عبدالعظيم الحسني وابلغه سلامي ( عبدالعظيم الحسني، ص 24).
وقد ارتفع في مدارج الايمان والمعرفة إلى الحد الذي قال له الإمام الهادي (عليه السلام):
( انت وليّنا حقّاً) ( الامالي للصدوق ص 204 المجلس 54).
قال عبدالعظيم بن عبدالله الحسني : ( دخلت على سيدي علي بن محمد ( الهادي ) بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فلما بصرني قال لي: (مرحباً بك يا أبا القاسم انت ولينا حقاً) ، قال: فقلت له: يابن رسول الله أنّى اريد ان اعرض عليك ديني فان كان مرضيّاً ثبتّ عليه حتى القى الله عزوجل، فقال: (هات يا أبا القاسم) ، فقلت: إنّي اقول: إن الله تعإلى واحد ليس كمثله شيء خارج من الحدين حدّ الابطال وحدّ التّشبيه، وانه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسّم الاجسام ومصوّر الصّور وخالق الاعراض والجواهر وربّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وان محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة وان شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة، واقول ان الإمام والخليفة وولي الامر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم انت يا مولاي، فقال علي (عليه السلام) : (ومن بعد الحسن ابني فكيف للناس بالخلف من بعده؟) قال : فقلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: (لأنّه لا يرى شخصه ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الارض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلما وجورا) ، قال فقلت: اقررت واقول ان وليّهم ولي الله وعدوهم عدو الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله، واقول ان المعراج حق والمسألة في القبر حق وَاَنّ الجنّة حق والنار حق والصراط حقّ والميزان حقّ وان السّاعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور، واقول ان الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال علي بن محمد (عليه السلام): (يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه أثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) ) ( الامالي للصدوق ص 204 المجلس 54).
وكما يبدو من التاريخ والروايات فانّ عبدالعظيم (عليه السلام) قد تعرض لمطاردة حكومة زمانه ففّر إلى ايران ليصون نفسه من الخطر واختفى في مدينة الرّي، ونقرأ في تاريخ حياته:
( كان عبدالعظيم ورد الرّيّ هارباً من السّلطان وسكن سَرَباً في دار رجل من الشيعة في سكّة الموالي وكان يعبد الله في ذلك السّرَب ( حفيرة تحت الارض) ويصوم نهاره ويقوم ليله وكان يخرج مستتراً فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطريق ويقول هو قبر رجل من ولد موسى (عليه السلام) فلم يزل يأوي إلى ذلك السّرب ويقع خبره إلى واحد بعد واحد من شيعة آل محمد (عليهم السلام) حتى عرفه اكثرهم، فرأى رجل من الشيعة في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: (إن رجلا من ولدي يحمل من سكّة الموالي ويدفن عند شجرة التفاح في باغ عبدالجبار بن عبدالوهاب) وأشار إلى المكان الذي دفن فيه، فذهب الرجل ليشتري الشجرة ومكانها؟ فأخبره الرّؤيا، فذكر صاحب الشجرة إنه كان رأى مثل هذه الرّؤيا وانه قد جعل موضع الشجرة مع جميع الباغ وقفاً على الشريف والشيعة يدفنون فيه.
فمرض عبدالعظيم ومات رحمه الله فلما جرّد ليغسل وجد في جيبه رقعة فيها ذكر نسبه) ( جامع الرواة، الجزء الاول، ص 460).
وقد حدثت وفاة عبدالعظيم في مرحلة إمامة الهادي (عليه السلام)، ويمكننا ان نتعرف على علوّ شخصيّته الالهيّة من خلال هذه الرواية التي ينقلها محمد بن يحيى العطار:
سأل الإمام الهادي عليه السالم رجلاً من أهالي مدينة الري جاءه زائراً فقال له: (اين كنت).
قال: كنت ذاهباً إلى زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام). فقال له الإمام: (كن على علم بأنّك لوزرت قبر عبدالعظيم الموجود في مدينتكم لكنت كمن زار قبر الإمام الحسين (عليه السلام)) ( عبدالعظيم الحسني ص 63).
ويعدّ عبدالعظيم من أوثق علماء الشيعة ورواتهم في زمان الأئمة (عليهم السلام)، وقد كان من جملة المؤلفين ايضاً، ونقل انه ألّف كتابا حول خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكتاباً آخر يُسّمى بـ ( اليوم والليلة) ( عبدالعظيم الحسني ص 63).
2 ـ الحسين بن سعيد الأهوازي:
وهو من اصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد والإمام الهادي (عليهم السلام)، وقد نقل الاحاديث عن جميع هؤلاء الكرام، وهو في الاصل من اهالي الكوفة، ولكنه انتقل مع اخيه إلى الأهواز ثم جاء من هناك إلى قم، وفي قم رحل عن هذا العالم.
والمعروف ان الحسين بن سعيد ألّف ثلاثين كتاباً في الفقه والاداب الاخلاق، وكتبه مشهورة متداولة بين العلماء، وكما يقول المرحوم المجلسي الاول: يلاحظ اتفاق العلماء على وثاقته والعمل برواياته. ويقول في حقّه المرحوم العلامة: انّه محلّ وثوق وهو من اعيان العلماء وكان جليل القدر.
يقول المرحوم الشيخ الطوسي :
ان الحسين بن سعيد علاوة على مقامه العلميّ قد كان يبذل غاية جهده في إرشاد الناس وهدايتهم، ولهذا فقد أوصل اسحاق بن ابراهيم الحضيني وعليّ بن ريّان إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، فكان السّبب في تعرّفهم على المذهب الحق وهو التشيع. وكانوا يسمعون منه الاحاديث وقد اطّلعوا على المعارف بسبب خدماته. واوصل عبدالله بن محمد الحضيني وغيره أيضاً إلى الإمام الرضا (عليه السلام) فكان هذا فاتحة خير لهم حيث اطّلعوا على المعارف الإسلامية ووصلوا إلى مقامات رفيعة وادّوا خدمات إسلامية جليلة ( تنقيح المقال، ج1 ص 329 ـ كتاب اختيار معرفة الرجال ص 551).
3ـ الفضل بن شاذان النيشابوري:
كان رجلاً عظيماً ومورداً للاعتماد وفقيها كبيراً ومتكلّماً متضلّعاً. وقد ادرك مجموعة من كبار أصحاب الأئمة، من قبيل محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى، وعاشرهم ما يناهز الخمسين عاماً، وانتفع بمعاشرتهم كما يقول هو: عندما توفّي هشام بن الحكم اصبح خليفته يونس بن عبدالرحمان، وعندما توفّي هذا اصبح خليفته في ردّ المخالفين السكاك، وأمّا الآن فأنا خليفتهم ( منتهى المقال ص 242 ـ مقدمة كتاب الايضاح، ص3، طبعة جامعة طهران).
ويعدّه المرحوم الشيخ الطوسي من جملة اصحاب الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام)، وقد عدّه بعض علماء الرّجال من جملة اصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) مع انّهم اعتبروه ضمن اتباع الإمام الجواد والإمام العسكري (عليهما السلام) أيضاً. ( مقدمة الايضاح، ص9 وص86).
وقد ألّف الفضل بن شاذان كتباً كثيرة بحيث قال البعض انها تصل إلى مائة وثمانين كتابا، ومن جملتها كتاب ( الايضاح ) الذي هو في علم الكلام وتحليل عقائد اصحاب الحديث، وقد طبعته جامعة طهران في عام (1392) هجري قمري.
واهتّم العلماء الكبار بأقوال وآثار الفضل بن شاذان، وكان العلماء يكتفون بقوله في ردّ أو قبول الرّواة. وأولى المرحوم الكليني عناية خاصّة لبعض كلماته وآرائه في كتاب الكافي. واهتّم بها كثيراً المرحوم الصدوق والشيخ الطوسي كذلك.
يقول مؤلّف كتاب ( جامع الرّواة) :
( فإنّه رئيس طائفتنا (نحن الشيعة) اجل اصحابنا الفقهاء والمتكلمين وله جلالة في هذه الطائفة وهو في قدره اشهر من ان نصفه. متكلم فقيه جليل القدر له كتب ومصنّفات، روى الكشّي عن الملقّب بتورا من أهل بوزجان من نيشابور انّ أبا محمد الفضل بن شاذان كان وجهّه إلى العراق فذكر انه دخل على أبي محمد (الإمام الحادي عشر) (عليه السلام) فلما اراد ان يخرج سقط عنه كتاب، وكان من تصنيف الفضل، فتناوله أبو محمد (عليه السلام) ونظر فترحّم عليه وذكر انه قال اغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهركم ( جامع الرواة، ج2، ص5).
وفي رواية أخرى ان كتاب ( اليوم والليلة ) ـ وهو احد كتبه ـ ( عرض على أبي محمد العسكري (عليه السلام) فترّحم عليه ثلاثاً وقال: ( إنّه صحيح ينبغي ان يعمل به) ) ( منتهى المقال، ص24 ـ مقدمة الايضاح، ص87 ).
ويقول الشهيد الكبير القاضي نور الله الشّوشتري فيما يتعلق بالفضل بن شاذان:
كان من اكبر المتكلمين وافضل المفسّرين والمحدثين واعظم واشرف الفقهاء والمجتهدين واعيان القرأء والنّحاة واللّغويّين … . ( مقدمة الايضاح ص2).
كان الفضل بن شاذان يعيش في نيشابور ثمّ نفاه منها إلى بيهق أمير خراسان عبدالله بن طاهر بذنب التشيع.
وعندما هاج الخوارج في خراسان فقد اضطّر الفضل للخروج منها صوناً للنّفس، واتعبه الطّريق فألّم به المرض وفارق الحياة الدنيا في أيّام إمامة الإمام العسكري (عليه السلام) ودفن في نيشابور القديمة، ويقع قبره حاليّاً على بُعد فرسخ واحد من نيشابور الفعليّة، وهو مزار للشيعة يتبّركون بقبره ( منتهى المقال ص 242 ـ مقدمة الايضاح ص48 ـ 52).
مقتطفات من كلام الإمام الهادي (عليه السلام):
وفي خاتمة المطاف نتبرّك بنقل كلمات من هذا الإمام العظيم للتّمسّك بولايته وتهذيب النفس بأحاديثه:
1 ـ ينقل الإمام (عليه السلام) عن آبائه الكرام إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
( … الإيمان ما وقرته القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى به اللّسان وحلّت به المناكحة) ( مروج الذهب ج4 ص85).
2 ـ ( من رضي عن نفسه كثر السّاخطون عليه) ( الانوار البهية، ص143).
3 ـ ( الهَزْلُ فكاهة السّفهاء وصناعة الجهال) ( الانوار البهية ص143).
4 ـ (من جمع لك ودّه ورأيه فاجمع له طاعتك) ( تحف العقول طبعة بيروت ص 358).
5 ـ ( من هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه ) ( تحف العقول طبعة بيروت ص 358).
6 ـ ( الدّنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون) ( تحف العقول طبعة بيروت ص 358).
7 ـ ( من اتّقى الله يتّقى، ومن اطاع الله يطاع، ومن اطاع الخالق لم يبال سخط المخلوقين) ( تحف العقول طبعة بيروت ص 357).
8 ـ ( إنّ الظالم الحالم يكاد ان يعفى على ظلمه بحلمه) ( تحف العقول طبعة بيروت ص 358).
9 ـ ( إنّ المحقّ السّفيه يكاد ان يطفئ نور حقّه بسفهه) ( تحف العقول طبعة بيروت ص 358).
فسلامٌ عليه يوم وُلِدَ ويوم استُشهِدَ مسموماً ويوم يُبْعَثُ حياً