الإمام الثالث : الإمام الحسين عليه السلام ـ الجزء الثاني
ومن هنا كان تحرّك الإمام الحسين(عليه السلام)، بالرّغم من تلك التّحدّيات والمصاعب، قد ضاعف من احتمال شهادته في أذهان الجماهير، وخاصّة أنّه كان يردّد دائماً خلال مسيره « مَنْ كانَ باذِلاً فينا مُهْجَتَهُ وَمُوَطِّناً على لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحلْ مَعَنا »(20).
ولذلك خطر في أذهان البعض من محبيّه، أن يصرفه عن المسير والتّحرّك.
وقد غفل هذا البعض، أنّ ابن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) إمام وخليفة النّبيّ، وهو عالم بوظيفته أكثر من غيره ولن يتوانى أبداً عن المهمّة الّتي عهد بها الله إليه.
أجل... إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) واصل مسيره وتحرّكه، بالرّغم من كلّ هذه النّظريّات والآراء الّتي تدور حوله، ولم يضعف إصراره أبداً .
وهكذا... ذهب واحتضن الشّهادة، ليس وحده بل مع أصحابه وأبنائه، وكلّ واحد منهم كان كوكباً لامعاً مضيئاً في سماء الإسلام ; ذهبوا كلّهم وقتلوا واستشهدوا وعانقوا بدمائهم الطّاهرة رمال كربلاء الملتهبه، لتعلم الامّة الإسلامية بأنّ يزيد (وريث العائلة الأمويّة القذرة) ليس خليفة لرسول الله، وأنّ الإسلام في أساسه ليس يزيد، ويزيد لا يمثّل الإسلام.
حقّاً... هل فكّرتم، أنّه لو لم تحدث شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) المفجعة والمثيرة، والباعثة على الثّورة والتّحرّك، ويبقى النّاس معتقدين بأنّ يزيد خليفة النّبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولكن بين حين وآخر، كانت تطرق أسماعهم حكايات بلاط يزيد والأعمال العابثة المنحرفة، والشّائنة ليزيد وعمّاله، فإنّ مثل ذلك كان يدفعهم إلى النّفور والاستياء من الإسلام نفسه، فإنّ مثل هذا الإسلام الّذي يمثّل يزيد خليفه لنبيّه، ممّا يستوجب حقّاً مثل هذا النفّرة والاستياء منه.
وأسر أيضاً أهل بيته الأطهار لتصل الرّسالة الاخيرة لهذه الشّهادة إلى أسماع النّاس، وقد سمعنا وقرأنا أنّ هؤلاء الأسرى في كلّ مكان في المدن والأسواق والمساجد وفي البلاط المتعفّن لابن زياد ويزيد كانوا يهتفون ويردّدون بأعلى صوت ويخطبون ليسقطوا القناع النّاعم المزيف، عن الوجه البغيض المجرم لجلاوزة بني أميّة ، وقد أثبت هؤلاء الأسرى للجميع بأنّ يزيد اللاّعب بالكلاب والشّارب للخمر لا يصلح أبداً للخلافة الإسلاميّة، وأنّ هذا المسند الّذي نصب نفسه عليه ليس مكانه، لقد أكملت خطاباتهم ونداءاتهم رسالة الشّهادة الحسينيّة، فجّروا زلزالاً في القلوب ، ليبقى إسم يزيد وإلى الأبد مثالاً لكلّ قذارة ورذيلة ودنائة، وبذلك تحطّمت كلّ أحلامه الذهبيّة ومطامعه الشّيطانيّة، أجل، لابدّ من رؤية عميقة ليمكن لنا التّوصل لكلّ جوانب هذه الشّهادة العظيمة الفاعلة وأبعادها.
ومنذ بداية إستشهاده وحتّى يومنا هذا، يحيى هذه الذّكرى المقدّسة، كلّ محبيّه ومواليه وشيعته وكلّ أولئك الّذين يقدّرون كرامة الإنسان وعظمته وشموخه، ففي كلّ عام يحيون بإرتدائهم الثّياب السّوداء ذكراه السّنوية، ذكرى تخضّبه بالدّماء، ذكرى ثورته وشهادته، ويعبّرون عن إخلاصهم ببكائهم على المصائب والمآسي الاليمة الّتي تعرّض لها، وكان أئمّتنا المعصومون(عليهم السلام): بنظرهم البعيد ورؤيتهم الوسيعة يؤلون أهميّة خاصّة لواقعة كربلاء وإحيائها، بالإضافة إلى توجّههم وذهابهم لزيارة حرمه الشّريف، وإقامة مآتم العزاء، وهناك أحاديث كثيرة منقولة عنهم في فضيلة إقامة المآتم، والحزن على الإمام الحسين(عليه السلام).
عن أبي عمارة المنشد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: يا أبا عمارة أنشدني للعبدي في الحسين(عليه السلام)، قال: فأنشدته فبكى ثمّ أنشدته فبكى ثمّ أنشدته فبكى ثمّ أنشدته فبكى، قال: فوالله ما زلت أنشده ويبكي حتّى سمعت البكاء من الدّار، ثمّ ذكر له الإمام(عليه السلام) الثّواب والأجر لمن أنشد الشّعر في الحسين(عليه السلام) (21).
وعن الإمام الصّادق(عليه السلام): « أنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، فإنّه فيه مأجور »(22).
وقال الإمام الباقر(عليه السلام) لمحمّد بن مسلم: « مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين(عليه السلام) فإن إتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين(عليه السلام) بالإمامة من الله عزّوجلّ »(23).
يقول الإمام الصّادق(عليه السلام): « إنّ زيارة الحسين(عليه السلام) أفضل ما يكون من الأعمال »(24).
وذلك، لانّ هذه الزّيارة، في الواقع، مدرسة كبيرة، تعلّم البشريّة ، دروس الإيمان والعمل الصّالح، لتحلّق الرّوح إلى ملكوت الفضائل والتّضحيات.
وإقامة المآتم، والبكاء على مصائب الإمام الحسين(عليه السلام)، والتّشرف لزيارة ضريحه الشّريف، وتمثّل تاريخ كربلاء الثّائر العظيم، وتجسيده وإستعراضه، وإن كان لهذه الممارسات، قيمها ومعاييرها السّامية، ولكن علينا أن نعلم، بأنّه يجب أن لا نكتفي بهذه الزّيارات والدّموع والأحزان، بل إنّ كلّ هذه المظاهر تستهدف أن تذكّرنا بفلسفة الالتزام بالدّين والتّضحية والدّفاع عن التعاليم السّماويّة، وليس لها هدف إلاّ هذا ; ونحن نحتاج وبإلحاح لتلك العطاءات الحسينيّة، أن تعلّمنا الإنسانيّة، وإفراغ القلب من كلّ شيء غير الله، وإلاّ فإنّنا لو اقتصرنا على المظاهر فحسب، فسوف ينسى الهدف الحسينيّ المقدّس.
خُلق الإمام الحسين(عليه السلام) وسلوكه:
إذا القينا نظرة عابرة على (56) عاماً من الحياة المستسلمة لرّضا الله الدّاعية له تعالى، الّتي عاشها الإمام الحسين(عليه السلام)، لرأيناها حافلة بالنّزاهة والعبوديّة ونشر الرّسالة المحمّديّة والمفاهيم العميقة، الّتي يعجز الفكر عن التوصّل إلى كنهها.
جوانب من حياته الكريمة:
كان متعلّقاً بشدّة بالصّلاة، والمناجاة مع الله، وقراءة القرآن الكريم، والدّعاء والاستغفار، وربّما صلّى في اليوم الواحد مئات الرّكعات(25)، وحتّى في الليلة الاخيرة من حياته لم يترك الدّعاء والمناجاة، وقد ذكر، أنّه طلب من أعدائه أن يمهلوه ليمكنه أن يخلو مع ربّه، ويتضرّع إليه، وقال(عليه السلام): « لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه، ونستغفره فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصّلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدّعاء والاستغفار »(26).
وقد حجّ عدّة مرّات ماشياً إلى بيت الله الحرام، وأدّى مناسك حجّه كذلك(27)، وروى بشر وبشير إبنا غالب، قالا: كنّا مع الحسين بن علي(عليه السلام) عشيّة عرفة، فخرج(عليه السلام) من فسطاطه، متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً، حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل، مستقبل البيت، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه، كإستطعام المسكين ، ثمّ قال:
« اَلْحَمْدُ للهِِ الَّذي لَيْسَ لِقَضائِه دافِعٌ، وَلا لِعَطائِه مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِه صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الْجَوادُ الْواسِعُ، فَطَرَ اَجْناسَ البَدائِع، وَأتقنَ بِحِكْمَتِه الصَّنائِعَ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الطَّلائِعُ، وَلا تَضيعُ عِنْدَهُ الْوَدائِعُ جازي كُلِّ صانِع ورَايشُ كُلِّ قانِع، وَراحِمُ كُلِّ ضارع ومُنْزِلُ الْمَنافِعِ وَالْكِتابِ الْجامِعِ بِالنُّور السّاطِعِ وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ وَلِلْكُرْباتِ دافِعٌ وَللِدَّرَجاتِ رافِعٌ وَللْجَبابِرَةِ قامِعٌ فَلا إلهَ غَيْرُهُ وَلا شَيْء يَعْدِ لُهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ اللَّطيفُ(28) الْخَبيرُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ. أللّهُمَّ إنّي أَرْغَبُ إلَيْكَ، وَأَشْهَدُ لَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، مُقِّراً بأنَّكَ رَبّي وَإلَيْكَ مَرَدّي، إبْتَدَأتَنِي بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ أَنْ أَكُونَ شَيْئاً مَذْكُوراً، خَلَقْتَني مِنَ التُّرابِ، ثُمَّ أَسْكَنْتَنِي الأَصْلابَ، امِناً لِرَيْبِ المنَونِ، وَاخْتِلاف الدّهور والسِّنينَ، . . . ثُمَّ أَخْرَجَتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى اِلى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً وَحَفِظْتَنِي في الْمَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً، وَرَزَقْتَنِي مِنَ الْغِذَاءِ لَبَناً مَرِيّاً ، وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ، وَكَفَّلْتَنيِ الأَْمَّهاتِ الرَّواحِم، وَكَلأَتَنِي مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ، وَسَلَّمَتَني مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيِمُ يا رَحْمانُ، حَتّى إذَا اسْتَهْلَلتُ ناطِقاً بِالْكَلامِ، اَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الإِْنْعامِ، وَرَبَّيتَني زايدِاً في كُلِّ عام، حَتّى إذا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي، وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتي، أَوْجَبْتَ عَلَيّ حُجَّتَكَ، بِأَنْ أَلْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ، وَرَوَّعْتَني بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وَأيقَظْتَني لِما ذَرَأْتَ في سَمائِكَ وَأَرضِكَ، مِن بَدائِعِ خَلْقِكَ، وَنَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ، وَأوْجَبْتَ عَلَيّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ، وَفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُكَ، وَيَسَّرتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنْنْتَ عَلَيَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَوْنِكَ وَلُطْفِكَ. ثُمّ إذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيْرِ الثَّرى، لَمْ تَرْضَ لي يا إِلهي نِعْمَةً دُونَ اُخْرى، وَرَزَقْتَني مِن أنواعِ الْمَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ. حَتّى إذا أتْمَمْتَ عَلَيّ جَميِعَ النِّعَمِ، وَصَرَفْتَ عَنّي كُلَّ النِّقم، لَمْ يَمْنَعُكَ جَهْلي وَجُرأتي عَلَيْكَ، أنْ دَلَلْتَني إِلى ما يُقَرِّبُني إلَيْكَ، وَوَفقتَنِي لِما يُزْلِفُنِي لَدَيْكَ.... فَأَيَّ نِعَمِكَ يا إلهي اُحْصي عَدَداً وذِكْراً، أَمْ أيَّ عَطاياكَ أقُومُ بِها شُكْراً، وَهيَ يا رَبِّ أكْثَرُ مِنْ أنْ يُحْصِيَهَا العادُّونَ، أو يَبْلُغَ عِلْماً بِها الحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأتَ عَنِيّ اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرّاءِ أكْثَرُ مِمّا ظَهَرَ لي مِنَ الْعافيَةِ وَالسَّرّاءِ. وَأنّا أشهدُ يا إلهي بِحَقيقَةِ إيماني وَ... أن لوْ حاوَلتُ وَاجْتَهَدْتُ مَدى الإعْصارِ وَالأَحْقابِ لَوْ عُمّرِتُها أنْ اُؤَدِّي شُكْرَ واحِدَة مِنْ أنْعُمِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ذلِكَ إلاّ بِمَنِّكَ الْمُوجِبِ عَلَيَّ بِهِ شُكْرُكَ أبَداً جَديداً وثناءً طارِفاً عَتيداً.... اَللّهُمَّ اجْعَلْني أَخْشاكَ كَأنّي أَراكَ، وَأَسْعِدْني بِتَقْواكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ.... أللَّهُمَ إجْعَلُ غِنايَ في نَفْسي، وَاليَقِيْنَ في قَلْبي، وَالإخْلاصَ في عَمَلي ، وَالنُّورَ في بَصَري، وَالْبَصِيْرَةَ في دِيني، وَمَتِّعْني بِجَوارِحي... . وَإنْ أعُدَ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وكَرائِمَ مِنَحِكَ لا أُحْصيها يا مَولاي......
أنْتَ الّذي مَنَنْـتَ.
أنْتَ الّذي أنْعَمْـتَ.
أنْتَ الّذي أحْسَنْـتَ.
أنْتَ الّذي أجْمَلْـتَ.
أنْتَ الّذي أفْضَلْـتَ.
أنْتَ الّذي أكْمَلْـتَ.
أنْتَ الّذي رَزَقْـتَ.
أنْتَ الّذي وَفّقْـتَ.
أنْتَ الّذي أعْطَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أغْنَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أقْنَيْـتَ.
أنْتَ الّذي آوَيْـتَ.
أنْتَ الّذي كَفَيْـتَ.
أنْتَ الّذي هَدَيْـتَ.
أنْتَ الّذي عَصَمْـتَ.
أنْتَ الّذي سَتَـرْتَ.
أنْتَ الّذي غَفَـرْتَ.
أنْتَ الّذي أقَلْـتَ.
أنْتَ الّذي مَكّنْـتَ.
أنْتَ الّذي أَعْزَزْتَ.
أنْتَ الّذي أعَنْـتَ.
أنْتَ الّذي عَضَدْتَ.
أنْتَ الّذي أيَّـدْتَ.
أنْتَ الّذي نَصَـرْتَ.
أنْتَ الّذي شَفَيْـتَ.
أنْتَ الّذي عافَيْـتَ.
أنْتَ الّذي أكْرَمْـتَ.
تَبارَكْتَ رَبّي وَتَعالَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ دائِماً ولكَ الشُّكرَ واصِباً، ثُمَّ أنا يا إلهي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبي فَاغْفِرْها لي… [إلى آخر الدّعاء »(29)..
وقد أثّر دعاء الإمام الحسين(عليه السلام) تأثيراً قويّاً بين النّاس في ذلك اليوم، وشدّهم بالله، بحيث ضجّوا بالبكاء والنّحيب، وأخذوا يردّدون الدّعاء مع إمامهم.
وذكر إبن الأثير في كتابه أسد الغابة «كان الحسين رضي الله عنه، فاضلاً كثير الصّوم والصّلاة والحجّ والصّدقة وأفعال الخير جميعها »(30).